فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال: {إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ} والسبب في هذا الكلام أنهم لو أقدموا على الكيد لكان ذلك مضافًا إلى الشيطان ونظيره قول موسى عليه السلام هذا من عمل الشيطان، ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أمورًا: أولها: قوله: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام.
قال الزجاج: الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض، واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء، فقال الحسن: يجتبيك ربك بالنبوة، وقال آخرون: المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه.
وثانيها: قوله: {وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} وفيه وجوه: الأول: المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلًا لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم.
قالوا: إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية، والثاني: تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله، وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والثالث: الأحاديث جمع حديث، والحديث هو الحادث، وتأويلها مآلها، ومآل الحوادث إلى قدرة الله تعالى وتكوينه وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته، وثالثها: قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى ءالِ يَعْقُوبَ}.
واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة هاهنا بالنبوة أيضًا وإلا لزم التكرار، بل يفسر إتمام النعمة هاهنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة.
أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد.
وأما سعادات الآخرة: فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى.
وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية، فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكيد هذا بأمور: الأول: أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان.
وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة، فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة، فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة، والثاني: قوله: {كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وإسحاق} ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحق عن سائر البشر ليس إلا النبوة، فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة.
واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء، وذلك لأنه قال: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى ءالِ يَعْقُوبَ} وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولًا به في حق أولاده.
وأيضًا أن يوسف عليه السلام قال: {إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} وكان تأويله أحد عشر نفسًا لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلًا.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام؟
قلنا: ذاك وقع قبل النبوة، وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها.
القول الثاني: أن المراد من قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} خلاصه من المحن، ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحق عليهما السلام هو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحق بتخليصه من الذبح.
والقول الثالث: أن إتمام النعمة هو وصل نعمة الله عليه في الدنيا بنعم الآخرة بأن جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكًا ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة.
واعلم أن القول الصحيح هو الأول، لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها، ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقوله: {عَلِيمٌ} إشارة إلى قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقوله: {حَكِيمٌ} إشارة إلى أن الله تعالى مقدس عن السفه والعبث، لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية.
فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعًا بصحتها أم لا؟ فإن كان قاطعًا بصحتها، فكيف حزن على يوسف عليه السلام، وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله، وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه، وكيف قال لإخوته وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، مع علمه بأن الله سبحانه سيجتبيه ويجعله رسولًا، فأما إذا قلنا إنه عليه السلام ما كان عالمًا بصحة هذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها حكمًا جازمًا من غير تردد؟.
قلنا: لا يبعد أن يكون قوله: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} مشروطًا بأن لا يكيدوه، لأن ذكر ذلك قد تقدم، وأيضًا فبتقدير أن يقال: إنه عليه السلام كان قاطعًا بأن يوسف عليه السلام سيصل إلى هذه المناصب إلا أنه لا يمتنع أن يقع في المضايق الشديدة ثم يتخلص منها ويصل إلى تلك المناصب فكان خوفه لهذا السبب ويكون معنى قوله: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب} [يوسف: 13] الزجر عن التهاون في حفظه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحَدَ عشر كوكبًا والشمس والقمر}
فيه قولان:
أحدهما: أنه رأى إخوته وأبويه ساجدين له فثنى ذكرهم، وعنى بأحد عشر كوكبًا إخوته وبالشمس أباه يعقوب، وبالقمر أمه راحيل رآهم له ساجدين، فعبر عنه بما ذكره، قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني: أنه رأى أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر ساجدين له فتأول الكواكب إخوته، والشمس أباه، والقمر أمه، وهو قول الأكثرين. وقال ابن جريج: الشمس أمه والقمر أبوه، لتأنيث الشمس وتذكير القمر.
وروى السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود يقال له بستانة فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رأها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجب بشيء، فنزل عليه جبريل بأسمائها قال فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وقال: «أنت تؤمن إن أخبرتك بأسمائها» فقال نعم، فقال: «جريان، والطارق والذيال وذو الكتفين وقابس والوثّاب والعمودان والفليق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور» فقال اليهودي: بلى والله إنها لأسماؤها.
وفي إعادة قوله: {رأيتهم لي ساجدين} وجهان:
أحدهما: تأكيدًا للأول لبعد ما بينهما قاله الزجاج.
الثاني: أن الأول رؤيته لهم والثاني رؤيته لسجودهم.
وفي قوله: {ساجدين} وجهان:
أحدهما: أنه السجود المعهود في الصلاة إعظامًا لا عبادة.
الثاني: أنه رآهم خاضعين فجعل خضوعهم سجودًا، كقول الشاعر:
............. ** ترى الأكم فيه سُجّدًا للحوافر

{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)}
وقيل إنه كان له عند هذه الرؤيا سبع عشرة سنة، قال ابن عباس: رأى هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر، فلما قصها على يعقوب أشفق عليه من حسد إخوته فقال: يا بني هذه رؤيا الليل فلا يعول عليها، فلما خلا به: {ق يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين}.
وفي تسميته بيوسف قولان:
أحدهما: أنه اسم أعجمي.
الثاني: أنه عربي مشتق من الأسف، والأسف في اللغة الحزن.
قوله عز وجل: {وكذلك يجتبيك ربك}
فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: بحسن الخَلق والخُلق.
الثاني: بترك الإنتقام.
الثالث: بالنبوة، قاله الحسن.
{ويعلمك من تأويل الأحاديث} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: عبارة الرؤيا، قاله مجاهد.
الثاني: العلم والحكمة، قاله ابن زيد.
الثالث: عواقب الأمور، ومنه قول الشاعر:
وللأحبة أيام تذكّرُها ** وللنوى قبل يوم البيْن تأويل

{ويتم نعمته عليك} فيه وجهان:
أحدهما: باختيارك للنبوة.
الثاني: بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك، قال مقاتل.
وفيه وجه ثالث: أن أخرج إخوته إليه حتى أنعم عليهم بعد إساءتهم إليه.
{وعلى آل يعقوب} بأن جعل فيهم النبوة.
{كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم وإسحاق} قال عكرمة: فنعمته على إبراهيم أن أنجاه من النار، وعلى إسحاق أن أنجاه من الذبح. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إنِّي رَأَيْت أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتهمْ لِي سَاجِدِينَ}
فِيهِ بَيَانُ صِحَّةِ الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ كَانَ صَغِيرًا، وَكَانَ تَأْوِيلُ الْكَوَاكِبِ إخْوَتَهُ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَبَوَيْهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ.
قَوْله تَعَالَى: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاك عَلَى إخْوَتِك فَيَكِيدُوا لَك كَيْدًا} عَلِمَ أَنَّهُ إنْ قَصَّهَا عَلَيْهِمْ حَسَدُوهُ وَطَلَبُوا كَيْدَهُ. وَهُوَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ تَرْكِ إظْهَارِ النِّعْمَةِ وَكِتْمَانِهِ عِنْدَ مَنْ يُخْشَى حَسَدُهُ وَكَيْدُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِإِظْهَارِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ}.
قَوْله تَعَالَى: {وَيُعَلِّمُك مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْمَعْنَى وَيَرْجِعُ إلَيْهِ، وَتَأْوِيلُ الشَّيْءِ هُوَ مَرْجِعُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ عِبَارَةُ الرُّؤْيَا. وَقِيلَ تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاك عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَك كَيْدًا إنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا: وَهِيَ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْخَلْقِ بُشْرَى كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ الْمُبَشِّرَاتِ إلَّا الرُّؤْيَا»، وَحَكَمَ بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا؛ فَأَنْكَرَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ.
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَمُ عَلَيْهَا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ.
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي حَقِيقَتِهَا؛ فَقَالَ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: إنَّهَا أَوْهَامٌ وَخَوَاطِرُ وَاعْتِقَادَاتٌ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هِيَ إدْرَاكٌ حَقِيقَةً، وَحَمَلَ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ ذَلِكَ عَلَى رُؤْيَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَطِيرُ وَهُوَ قَائِمٌ، وَفِي الْمَشْرِقِ وَهُوَ فِي الْمَغْرِبِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إدْرَاكًا حَقِيقَةً.
وَعَوَّلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ فِي أَجْزَاءٍ لَمْ تَحِلَّهَا الْآفَةُ، وَمِنْ بَعْدِ عَهْدِهِ بِالنَّوْمِ اسْتَغْرَقَتْ الْآفَةُ أَجْزَاءَهُ، وَتَقِلُّ الْآفَةُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ.
وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ لَهُ عِلْمًا نَاشِئًا، وَيَخْلُقُ لَهُ الَّذِي يَرَاهُ لِيَصِحَّ الْإِدْرَاكُ، فَإِذَا رَأَى شَخْصًا وَهُوَ فِي طَرَفِ الْعَالَمِ فَالْمَوْجُودُ كَأَنَّهُ عِنْدَهُ، وَلَا يَرَى فِي الْمَنَامِ إلَّا مَا يَصِحُّ إدْرَاكُهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَلِذَلِكَ لَا نَرَى شَخْصًا قَائِمًا قَاعِدًا فِي الْمَنَامِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يَرَى الْجَائِزَاتِ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَاتِ، أَوْ الْأَشْيَاءَ الْمُعْتَادَاتِ، وَإِذَا رَأَى نَفْسَهُ يَطِيرُ أَوْ يَقْطَعُ يَدَهُ أَوْ رَأْسَهُ فَإِنَّمَا رَأَى غَيْرَهُ عَلَى مِثَالِهِ، وَظَنِّهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرٍ: إنَّهَا أَوْهَامٌ، وَيَتَّفِقُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي»؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَرَ الذَّاتَ النَّبَوِيَّةَ وَلَا الْعَيْنَ الْمُرْسَلَةَ إلَى الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالًا صَادِقًا فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَالْخَبَرِ بِهِ؛ إذْ قَدْ يَرَاهُ شَيْخًا أَشْمَطَ، وَيَرَاهُ شَابًّا أَمْرَدَ، وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا زَائِدًا، فَقَالَ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» أَيْ لَمْ يَكُنْ تَخْيِيلًا وَلَا تَلْبِيسًا وَلَا شَيْطَانًا؛ وَلَكِنَّ الْمَلِكَ يَضْرِبُ الْأَمْثِلَةَ عَلَى أَنْوَاعٍ، بِحَسَبِ مَا يَرَى مِنْ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْمِثَالِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ؛ إذْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّائِمِ إلَّا بِالرَّمْزِ وَالْإِيمَاءِ فِي الْغَالِبِ، وَرُبَّمَا خَاطَبَهُ بِالصَّرِيحِ الْبَيِّنِ، وَذَلِكَ نَادِرٌ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْت سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ تَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَهْيَعَةَ، فَأَوَّلْتُهَا الْحُمَّى، وَرَأَيْت سَيْفِي قَدْ انْقَطَعَ صَدْرُهُ وَبَقَرًا تُنْحَرُ، فَأَوَّلْتُهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي يُقْتَلُ، وَالْبَقَرُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ وَرَأَيْت أَنِّي أَدْخَلْت يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، وَرَأَيْت فِي يَدِي سِوَارَيْنِ فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي»، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ضُرِبَتْ لَهُ بِهِ الْأَمْثَالُ.
وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ أَوَّلًا، وَمِنْهَا مَا لَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ إلَّا بَعْدَ الْفِكْرِ.
وَقَدْ رَأَى النَّائِمُ فِي زَمَانِ يُوسُفَ بَقَرًا فَأَوَّلَهَا يُوسُفُ السِّنِينَ، وَرَأَى أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَأَوَّلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَبَوَيْهِ، وَأَوَّلَ الْكَوَاكِبَ الْأَحَدَ عَشَرَ إخْوَتَهُ الْأَحَدَ عَشَرَ، وَفَهِمَ يَعْقُوبُ مَزِيَّةَ حَالِهِ، وَظُهُورَ خِلَالِهِ؛ فَخَافَ عَلَيْهِ حَسَدَ الْإِخْوَةِ الَّذِي ابْتَدَأَهُ ابْنَا آدَمَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْكِتْمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ يُوسُفُ فِي وَقْتِ رُؤْيَاهُ صَغِيرًا، وَالصَّغِيرُ لَا حُكْمَ لِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِرُؤْيَاهُ حُكْمٌ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّغِيرَ يَكُونُ الْفِعْلُ مِنْهُ بِالْقَصْدِ، فَيُنْسَبُ إلَى التَّقْصِيرِ، الرُّؤْيَا لَا قَصْدَ فِيهَا، فَلَا يُنْسَبُ تَقْصِيرٌ إلَيْهَا.
الثَّانِي: أَنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ حَقِيقَةً كَمَا بَيَّنَّاهُ، فَيَكُونُ مِنْ الصَّغِيرِ كَمَا يَكُونُ مِنْهُ الْإِدْرَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْيَقِظَةِ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى صُدِّقَ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى فِي الْمَنَامِ تَأَوَّلَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَهُ يُقْبَلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، مِنْهَا الِاسْتِئْذَانُ فَكَذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْلُهُ: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِك فَيَكِيدُوا لَك كَيْدًا} حُكْمٌ بِالْعَادَةِ مِنْ الْحَسَادَةِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْقَرَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالْحُكْمُ بِالْعَادَةِ أَصْلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدُ.
وَقِيلَ: إنَّ يَعْقُوبَ قَدْ كَانَ فَهِمَ مِنْ إخْوَةِ يُوسُفَ حَسَدًا لَهُ بِمَا رَأَوْا مِنْ شَغَفِ أَبِيهِ بِهِ؛ فَلِذَلِكَ حَذَّرَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ يَعْقُوبَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا؟؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ لِابْنِهِ عَنْ ذِكْرِهَا، وَخَوْفَهُ عَلَى إخْوَتِهِ مِنْ الْكَيْدِ لَهُ مِنْ أَجْلِهَا عُلِمَ بِأَنَّهَا تَقْتَضِي ظُهُورَهُ عَلَيْهِمْ وَتَقَدُّمَهُ فِيهِمْ، وَلَمْ يُبَالِ بِذَلِكَ يَعْقُوبُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَوَدُّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَالْأَخَ لَا يَوَدُّ ذَلِكَ لِأَخِيهِ. اهـ.